الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بحر الدموع **
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه). فالغيبة بالقلب حرام، كما هي باللسان حرام، إلا أن يضطرّ لمعرفته، بحيث لا يمكنه التجاهل، فحدّ الغيبة كما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن تذكر أخاك بما يكرهه إن بلغه أو سمعه، وإن كنت صادقًا سواء ذكرت نقصانًا في نفسه، أو عقله، أو ثوبه، أو في فعله، أو في قوله أو في دينه، أو في داره، أو في دابته، أو في وولده، أو في عبده، أو في أمته، أو بشيء ما يتعلق به، حتى قولك: إنه واسع الكم، طويل الذيل. وقد ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ما أعجزه، فقال: (اغتبتموه). وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى صفيّة، وقالت لها كذا وكذا، وأشارت بيدها، تعني قصرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتبتها يا عائشة)، فقالت: يا رسول الله، أليست هي قصيرة؟ قال: (إنك ذكرت أقبح شيء فيها). والغيبة لا تقتصر على اللسان، بل كل ما يفهم منه عرض يكرهه المذكور فيه إن بلغه أو سمعه، باليد، أو بالرجل، أو بالإشارة، أو بالحركة، أو بالتعرّيض أو بالمحاكاة، فهي غيبة. وقد عظم الله تعالى أمر الغيبة، فقال تعالى: فقيل معناه الطاعن في الناس، الذي يأكل لحوم الناس. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم، فقيل لي: هؤلاء الذين يغتابون الناس). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد). روي عن عبد الملك بن حبيب رحمه الله تعالى بإسناده عمّن حدّثه أنه قال لمعاذ بن جبل: يا معاذ حدّثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ إني محدثك حديثًا، إن أنت حفظته نفعك الله، وإن ضيّعته ولم تحفظه، انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة. يا معاذ: الله خلق سبع أملاك قبل أن يخلق السماوات والأرض، فجعل لكل سماء ملكًا بوّابا عليها، فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين يصبح إلى حين يمسي، له نور كنور الشمس، حتى إذا بلغت به إلى سماء الدنيا، فتزكيه وتكثره، فيقول الملك الموكل بها للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيره. ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من العبد، فتزكيه وتكثره، حتى تبلغ به إلى السماء الثانية، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنه أراد بهذا العمل عرض الدنيا، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يبتهج نورًا من صدقة وصيام، وقد أعجب الحفظة، فيجاوزون به إلى السماء الثالثة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر، أمرني ربي ألا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، إنه كان يتكبّر على الناس. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري وله دويّ من صلاة وتسبيح وحج وعمرة، حتى يجاوزوا به إلى السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها، قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ظاهره وباطنه، أنا صاحب العجب، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، إنه كان إذا عمل عملًا أدخل العجب فيه. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وصوم وصدقة وزكاة وحج وعمرة، حتى يجاوزوا بها إلى السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة، فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واحملوه على عاتقه، أنا ملك الحسد، إنه كان يحسد من يتعلم، ولا يعمل بمثل عمله، وكل من كان يأخذ فضلًا من العبادة كان يحسده، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام، فيجاوزون به إلى السماء السادسة، فيقول لهم الملك، قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، إنه كان لا يرحم إنسانًا ولا مسكينًا من عباد الله تعالى قط إذا أصابه بلاء أو ضرّ، بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وصوم وجهاد وورع، له دويّ كدويّ النحل، وضوء كضوء الشمس، ومعه ثلاث آلاف ملك، فيجاوزون به السماء السابعة: فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، واقفلوا على قلبه، إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به ربي، إنما أراد بعمله رفعة عند الفقهاء، وذكرًا عند العلماء، وصيتًا في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، وكل عمل لم يكن لوجه الله خالصًا، فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي. قال: وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وعمرة وخلق وحسن وصمت، وذكر الله تعالى، فتشيّعه ملائكة السماوات السبع، حتى يقطعوا الحجب كلها، ويقفوا بين يدي الله تعالى، ويشهدوا له بالعمل الصالح لله تعالى، فيقول لهم: أنتم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يردني بهذا العمل، وأراد به غيري، فعليه لعنتي ولعنة أهل السماوات والأرض، فتقول الملائكة كلها: عليه لعنتك ولعنتنا، وتقول السماوات كلها: عليه لعنة الله ولعنتنا، وتلعنه السماوات السبع ومن فيهنّ). قال معاذ: قلت: يا رسول الله، أنت رسول الله، وأنا معاذ. قال: (اقتد بي، وإن كان في عملك نقص، يا معاذ، احفظ لسانك من الوقيعة في لسانك من إخوانك من حملة القرآن، واحمل ذنوبك، ولا تحملها عنهم، ولا تتركّ نفسك بذمّهم ولا توقع نفسك عليهم، ولا تدخل الدنيا في عمل الآخرة، ولا تتكبّر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تمازح رجلًا وعندك آخر، ولا تتعاظم على الناس، فتقطع عنك خيرات الدنيا والآخرة، ولا تمزق لحوم الناس بلسانك، فتمزقك كلاب النار يوم القيامة بالنار، قال الله تعالى: قال: فما رأيت أحدًا أكثر تلاوة للقرآن من هذا الحديث. [أورده المصنف في كتاب الموضوعات حديث موضوع]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده). [مسلم 40]. وقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه). [مسلم 2580]. وقال: (المسلمون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسه، تداعى بقيّة جسده بالحمّى السهر). [البخاري ومسلم]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت). وقال معاذ رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول؟ فقال: (ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!). [الترمذي 2616]. وقيل لعيسى عليه السلام: دلنا على عمل ندخل به الجنة، قال: فلا تنطقوا أبدًا. قالوا: لا بدّ لنا من ذلك. قال: فلا تنطقوا إلا بخير. وقال صلى الله عليه وسلم: (اخزن لسانك إلا من خير، فإنك بذلك تغلب الشيطان) ابن أبي الدنيا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى عند كل لسان ناطق، فليتق الله امرؤ علم ما يقول). [ابن المبارك في الزهد]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت). [مسلم 48]. وقال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبدًا قال خيرًا أو صمت). [الطبراني]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه). [ابن أبي الدنيا]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إلى قلبه، فإن كان له تكلم، وإن كان عليه أمسك، وقلب الجاهل من وراء لسانه، فهو يتكلم بكلّ ما عرض له). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة). [الترمذي وابن ماجه]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالًا يهوي بها في نار جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالًا يرفعه الله بها إلى الجنة). [البخاري]. وإياك يا أخي، والعجب، فإنه مذموم كيف كان؛ بالنفس أو بالفعل أو بالقول، ولا تغترّ بفعلك ولا بقولك، فإن الله تعالى يقول: وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء بنفسه) [الترغيب والترهيب]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا، لخشيت عليكم ما هو أشد من الذنب، وهو العجب). [الترغيب والترهيب]. وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئًا؟ قالت: إذا ظنّ أنه محسن. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الهلاك في اثنتين القنوط والعجب. وإنما جمع بينهما، لأن القانط لا يطلب السعادة لقنوطه، وأن المعجب لا يطلبها لظنه أنه ظفر بها. وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يومًا: أنا من الراسخين في العلم، وقال يومًا: سلوني قبل أن تفقدوني، فلما انصرف إلى منزله، بعث الله ملكًا في صورة آدمي، فدق عليه الباب، فخرج إليه عبد الله بن عباس، فقال له الملك: يا ابن عباس: ما تقول في النملة مع صغرها، أين روحها في مقدّمها، أو في مؤخرها؟ فلم يجد جوابًا فدخل منزله، وأغلق بابه، وآلى على نفسه أن لا يدّعي علمًا أبدًا. قال الله تعالى: وذكر أنه حضر بعض النحويين في مجلس ابن شمعون الواعظ، وكان من الزهاد، فكأن النحويّ أخذ على الشيخ لحنًا في لسانه، وغلظًا في كلامه، فانقطع عنه النحويّ، ولم يأت إلى مجلسه، فكتب إليه ابن شمعون: أراك من الإعجاب رضيت أن تقف دون الباب، أما سمعت رسالة بعض العارفين إلى بعض المتأدبين. كتب إليه: من اعتمد على ضبط أقواله، لحن في أفعاله، إنك رفعت وخفضت وجزمت وتهت وانقطعت. ألا رفعت إلى الله جميع الحاجات؟ ألا خفضت صوتك عن المنكرات؟ ألا نصبت بين عينيك ميزان الممات، أما علمت أنه لا يقال غدًا لعبد: لم لم تكن معربًا وإنما يقال له: لم كنت مذنبًا. يا هذا، ليس المرغوب الفصاحة في المقال، وإنما المرغوب الفصاحة في الفعال. ولو كانت الفصاحة محمودة في المقال دون الفعال، لكان هارون أولى بالرسالة من موسى عليهما السلام، قال الله تعالى إخبارًا عن قول موسى: وأنشدوا: ولاحن في الفعال ذو زلل *** حتى إذا جاء قوله وزنه قال وقد أكسبه لفظه *** تيها وعجبًا أخطأن يا لحنه قلت أخطأ الذي يقوم غدًا *** ولا يرى في كتابه حسنه روي أن رجلًا نظر إلى بشر بن منصور السليمي رضي الله تعالى عنه وهو يطيل الصلاة، ويحسن العبادة، فلما فرغ قال له: لا يغرّنك ما رأيت مني، فإن إبليس، لعنه الله، عبد الله آلافًا من السنين ثم صار إلى ما صار إليه. فمن سعادة المرء أن يقرّ على نفسه بالعجز والتقصير في جميع أفعاله وأقواله. قيل المهلكات أربع هي: أنا، ونحن، ولي، وعندي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النادم على الذنب كمن لا ذنب له) [ابن ماجه]. (النادم ينتظر الرحمة، والمعجب ينتظر المقت من الله تعالى). [الطبراني]. قال أبو الدرادء رضي الله عنه: إن ناقدت الناس ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك، فالعاقل من وهب نفسه وعرضه ليوم فقره، وما تجرّع مؤمن أحب إلى الله عز وجل من غيظ كظمه، فاعفوا يعزكم الله، وإياكم ودمعة اليتيم، ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أعظم الخطايا الكذب، وسب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله ومن يغفر، يغفر الله له، ومن يصبر على الرزيّة يعقبه الله خيرًا منها. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما أخذ موسى عليه السلام الألواح، نظر فيها، وقال: إلهي، أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدًا من قبلي، فأوحى الله تعالى إليه: أتدري لما فعلت ذلك بك؟ قال: لا. قال: نظرت إلى قلوب عبادي، فلم أجد قلبًا أشد تواضعًا من قلبك، فلذلك: يا موسى: إنما أقبل من تواضع لعظمتي، ولم يتعاظم على خلقي، وألزم قلبه خوفي، وقطع نهاره بذكري، وكفّ لسانه عن الشهوات لأجلي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها رجل، ومن كظم غيظًا هو قادر على إنفاذه، ملأ الله قلبه أمنًا وايمانًا). وحكي أن غلامًا لجعفر الصادق رضي الله عنه سكب على يده الماء في الطشت، فطار الماء على ثوبه، فنظر إليه جعفر نظرة منكرة، فقال العبد: يا مولاي: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله، إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخالطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا، حليمًا سكوتًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا، ولا غافلًا، ولا سخابًا، ولا صيّاحًا، لا حديدًا، ولا منزعجًا. قال بعض الزاهدين: اغتنموا من زمانكم خمسًا: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئًا لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئًا لم تغبطوا به. وأوصيكم بخمس أيضًا: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مدحتم لم تفرحوا، وإن ذممتم لم تجزعوا، وإن كذبتم لم تغضبوا، وإن خانوكم فلا تحزنوا. اعلم أن الربا من المهلكات وهو أخفى من دبيب النمل على الصفاء في الليلة الظلماء، وإن أدنى الربا كالذي يزني مع أمه والزنية مع الأم أعظم الأمور وزرًا من سبعين زنية مع غيرها. قال الله تعالى: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم الربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية في الإسلام). [رواه أحمد]. وقال سمرة بن جندب رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة الغداة، أقبل علينا بوجهه الشريف، وقال: (هل رأى أحد منك رؤيا؟) قلنا: لا يا رسول الله، فذكر صلى الله عليه وسلم حديث الربا. قال: ثم انتقلنا حتى أتينا على نهر من دم وفيه رجل قائم، وعلى شاطئ النهر رجل قائم، وبين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر ليخرج، فلما أراد أن يخرج، رماه الرجل بحجر فيه، فردّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى فيه حجرًا، فرجع كما كان. قال: (فسألت عنه فقيل لي: هذا آكل الربا يفعل به هكذا يوم القيامة). وقال موسى عليه السلام: يا رب، ما جزاء من يأكل الربا ولم يتب منه؟ قال: يا موسى أطعمه يوم القيامة من شجر الزقوم. وأنشدوا: أيا الذي قلبه ميّت *** بأكل الربا ازدجر وانتبه فكم نائم نام في غبطة *** أتته المنيّة في نومته وكم من مقيم على لذة *** دهته الحوداث في لذته وكم من جديد على ظهرها *** سيأتي الزمان على جدته وأما آكل الحرام، قال الله تعالى في كتابه العزيز: وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تبارك وتعالى ملكًا على بيت المقدس ينادي في كل يوم وليلة: من أكل حرامًا، لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يخرج ذلك الحرام من بيته، فإن مات على ذلك، فأنا بريء منه). وقال صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا الأمانة من بيوتكم، وردّوها إلى أربابها، فإن لم تفعلوا فلن تنفعكم أعمالكم شيئًا، ولا ينفعكم قول لا إله إلا الله مع الحرام في البيت). وقال صلى الله عليه وسلم: (طلب الحلال فرض على كل مسلم) أي بعد فريضة الإيمان. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أكل لقمة الحرام، لم يقبل الله تعالى منه صلاة أربعين يومًا). (وكل لحم أنبته السحت والحرام، فالنار أولى به). [الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: (من اكتسب مالًا حرامًا، لم يقبل الله منه صدقة، ولا عتقًا، ولا حجًا، ولا عمرة، وكانت له بعدده أوزارًا، وما بقي منه بعد موته كان زاده إلى النار). وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن رجلًا اشترى ثوبًا بعشرة دراهم، وكان فيهم دراهم حرام، لم يقبل الله تعالى منه عملًا حتى يؤديه إلى أهله). ويروى في حديث آخر: (لم يقبل منه عملًا ما دام عليه شيء منه) [رواه أحمد]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن أصحاب المال الحرام استشهدوا في سبيل الله تعالى سبعين مرة لم تكن الشهادة لهم توبة، وتوبة الحرام ردّه إلى أربابه، والاستحلال منهم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أكل الحلال أربعين يومًا، نوّر الله تعالى قلبه، وأجرى ينابيع الحكمة على لسانه، ويهديه الله في الدنيا والآخرة). وفي المناجاة: إن الله تعالى يقول لموسى عليه السلام: إن أردت أن تدعوني، فصن بطنك عن الحرام، وقل يا ذا المنّ القديم، والفضل العميم، يا ذا الرحمة الواسعة، فإنّى أجيبك فيما سألتني. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لو صمتم حتى تكونوا كالحنايا، وصليّتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يقبل منكم إلا بورع حاجز. وقال بعض أهل العلم: الدنيا حلالها حساب، وحرامها عقاب، والحرام داء لا دواء له إلا الفرار للرحمن من أكله. وأنشدوا في المعنى: أشبّه من يتوب على حرام *** كبيض فاسد تحت الحمام يطول عناؤه في غير شغل *** وآخره يقوم بلا تمام إذا كان المقام على حرام *** فلا معنى لتطويل القيام وقال يحيى بن معاذ رضي الله تعالى عنه: الطاعة مخزونة في خزائن الله تعالى، ومفتاحها الدعاء، وأسنانها أكل الحلال، فإذا لم يكن في المفتاح أسنان، فلا يفتح الباب، وإذا لم تفتح الخزانة كيف يتوصل إلى ما فيها من الطاعة. فصن لقمتك، وأطب طعمتك حتى يتبين لك مبيض صالح العمل من مسود خيط الأمل من فجر الأجل، ثم أتم صيام الجوارح عن حرام طعام الآثام إلى ليل القيام فتفطر على فوائد موائد ومن لم يجتنب الحرام من الطعام، أفطر بعد طول الصيام على مرارة حرارة ثمرة الزقوم، فيا له من طعام، ما أعظم ضرره، يفتت الفؤاد، ويقطع الأكباد، ويمزق الأجساد، ويورث الأنكاد في الميعاد. وقال سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه: كنت أقرأ الآية فيفتح لي فيها سبعون بابًا من العلم، فلما أكلت مال هؤلاء الأمراء، صرت أقرأ الآية فلم يفتح لي فيها باب واحد. فالحرام من القوت نار تذيب شحمة الفكر، وتذهب لذة حلاوة الذكر، وتحرّق ثياب إخلاص النيّات، ومن الحرام يتولد عمى البصيرة وظلام السريرة. فاكتسب مالًا حلالًا، وأنفقه في قصد، واجتنب الحرام وأهله، ولا تجالسهم، ولا تأكل طعامهم، ولا تصحب من كسبه من الحرام، إن كنت صادقا في ورعك، ولا تدلّن أحدًا على الحرام فيأكله هو وتحاسب أنت عليه، ولا تعنه أيضًا على طلبه، فإن المعين شريك. واعلم أنه إنما تقبل الأعمال من آكل الحلال. ويتعلق بذلك كتمان الفاقة والحسرات وإخفاء الأنين والزفرات، والركون في الخلوات. وأما أكل مال اليتيم فلو لم يكن فيه إلا ما نطق القرآن الكريم على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم حيث قال جل وعلا: وقال تعالى: وأما الخيانة في الوزن والكيل، فاجتنب ذلك يا أخي ما استطعت، فإن الله تعالى قد أمرك بالعهد فيهما في قوله تعالى: وإياك يا أخي إن تغتبط بشيء من حقوق المسلمين، فإن البركة لا تكون مع الخيانة، وإن قليلًا من الحرام يتلف كثيرًا من الحلال. وإياك يا أخي إن خنت درهمًا، خانك إبليس في سبعين درهمًا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة من كنّ فيه فهو منافق، وإن صلى وصام: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) [البخاري ومسلم]. وقال بعضهم: دخلت لزيارة جار لي كان يبيع الحنطة، فلما قعدت عند رأسه وهو يقول: جبلان من نار، فسألت زوجته، فقالت: إنه كال له مدّان، أحدهما كبير والآخر صغير، فإذا ابتاع من أحد شيئًا اكتال بالمدّ الكبير، وإذا باع هو لأحد شيئًا، كال له بالمد الصغير، فعلمت أن المدّين هما الذان تصورا له جبلين من نار. قيل، وكان رجل بالبادية لبّان يخلط اللبن بالماء، فجاء السيل، فذهب بالغنم، فجعل يبكي ويقول: اجتمعت تلك القطرات، فصارت سيلًا، ولسان الجزاء يناديه: واعلم أن السرقة والخيانة أمران مهلكان ضارّان بالدين. وفي المناجاة أن الله تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام: ستة ناري وغضبي، فأولهم من طال عمره وساء الخلق، وغنيّ سارق، وعالم فاسق، ومن أتاني على غير توبة، ومن لقيني بدم مؤمن متعمدًا، ومن منع حق امرئ مسلم وأكله غضبًا. وقال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا. ذكر أنه وجدت على صخرة بيت المقدس مكتوب عليها ست كلمات: كل عاص مستوحش، وكل مطيع مستأنس، وكل خائف هارب، وكل راج طالب، وكل مقتنع غني، وكل حريص فقير. وأما الأيمان الكاذبة، فإنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحلف الحنث أو ندم). وقيل: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من أصحابه وهو يضرب عبدًا له، والعبد يقول له: أسألك بوجه الله تعالى إلا تركتني، وهو يزيد في ضربه، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح العبد، فانطلق إليه، فلما رآه السيّد أمسك فقال رسول الله: (سألك بوجه الله العظيم، فلم تعف عنه، فلما رأيتني، أمسكت يدك)، فقال: يا رسول الله أشهدك أنه حر لوجه الله تعالى العظيم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو لم تفعل، للفحت النار وجهك). فإياك والتعرض لمقت الله تعالى بكثرة الأيمان، فإن الله تعالى يقول: وفي الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قال: يا رب، ما لمن يحلف بك كاذبًا؟ قال: أجعل لسانه بين جمرتين أحقابًا. قال: يا رب فما على من اقتطع مال مسلم بيمين فاجرة؟ قال: أقطع حظه من الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش رجلاه قد خرقت الأرض السفلى، وعنقه مثنيّ تحت العرش، فيرفع رأسه وهو يقول: يا إلهي وسيدي، ما أعظمك! فيقول الله تعالى: ما عرف ذلك من حلف بي كاذبًا). [رواه الحاكم]. وأما شرب الخمر، فإنه من أكبر الكبائر، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (من شرب من الخمر شربة لم تقبل منه صلاة سبعة أيام، ولم يقبل منه صيام). [ابن ماجه]. واعلم أن في شربها عشرة خصال مذمومة: أولها: أنها تذهب في عقل شاربها حتى يصير مضحكة للصبيان، ومهزأة كما روي عن ابن أبي الدنيا أنه قال: رأيت سكران يبوّل ويمسح وجهه ببوله، وهو يقول: اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهرين. ورأى سكران قد تقيأ والكلب يلحس فاه، والسكران يقول: أكرمك الله يا سيدي كرامة أوليائه. والثانية أنها تتلف المال وتفسده، وتعقب الفقر، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم أرنا في الخمر فإنها متلفة للمال مذهبة للعقل. [سنن أبي داود]. والثالثة: أنها توقع العداوة والبغضاء. قال الله تعالى: ويريد: انتهوا عنهما. قال عمر: انتهيت يا رب، انتهيت. والرابعة: يحرم صاحبها لذة الطعام وصواب الكلام. والخامسة: أنه تحرم عليه زوجته، فتكون معه على الزنى، وذلك أن أكثر كلامه بالطلاق، فربما حنث ولم يشعر، فيكون معها زانيًا، فإنه روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: من أنكح كريمته شارب الخمر، فقد ساقه للزنى. والسادسة: أنها مفتاح كل شر توقعه في جميع المعاصي، كما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال في خطبته: أيها الناس، اتقوا شرب الخمر، فإنها أم الخبائث. والسابعة: أنها تؤذي حفظته بإدخالها في مجلس الفسوق والفجور والروائح الكريهة. والثامنة: أنه أوجب على نفسه الحد ثمانين جلدة، فإن لم يضربها في الدنيا ضرب في الآخرة على رؤوس الأشهاد. والتاسعة: أنها تسدّ دونه أبواب السماء، فلا يرفع له عمل ولا دعاء أربعين يومًا. والعاشرة: أنه خاطر بنفسه وبدينه، فيخاف عليه أن ينزع منه الإيمان عند الموت. كما روي عن بعضهم أنه قال: رأيت إنسانًا يجود بنفسه عند الموت وهو يقال له: قل لا إله إلا الله، فكان يقول: اشرب واسقني. وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إذا مات العبد المخمور، فادفنوه واحبسوني، واحفروا عليه، فإن لم تجدوا وجهه مصروفًا عن القبلة، والا اضربوا عنقي. فهذه عقوبته في الدنيا، وأما عقوبته في الآخرة، فإنها لا تحصى من شرب الحميم والزقوم وعصارة أهل النار في النار، إلى غير ذلك من العذاب والنكال. أعاذنا الله منه. وأما ما أعدّ الله تعالى لتارك الصلاة على صحة البدن، فمنه ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين الكافر والمسلم إلا ترك الصلاة، فإن تارك الصلاة على صحة البدن يبتليه الله تعالى بخمسة عشر عقوبة، منها ستة في الدنيا، وثلاثة عند موته، وثلاثة في قبره، وثلاثة عند لقاء ربه. فأما التي تصيبه في الدنيا، فيرفع الله تعالى البركة من عمره. والثانية: يرفع الله البركة من رزقه. والثالثة: تزول سيما الخير من وجهه. والرابعة: كل عمل يعمله لا يقبل منه شيء. والخامسة: كل دعائه لا يسمع. والسادسة: لا حظ له في الإسلام. قيل يا رسول الله فما الثلاثة التي تصيبه عند الموت؟ قال صلى الله عليه وسلم: يموت حيرانًا ذليلًا ولا يدري على أي دين يموت، ويموت عطشانًا جيعانًا ولو سقي أنهار الدنيا كلها ما روي. قيل يا رسول الله فما الثلاثة التي تصيبه في قبره؟ قال: ظلمة القبر وضيقه، ومسألة منكر ونكير. قيل يا رسول الله، فما الثلاثة التي تصيبه عند لقاء ربه؟ قال: يلقى الله تعالى وهو غضبان عليه، ويبعث الله له ملكًا يكّبه على وجهه في النار، ويعذبه الله تعالى بالوادي الذي يقال له ويل). [حديث موضوع أنظر تنزيه الشريعة]. قال الله تعالى: وقال صلى الله عليه وسلم: (عشرة من أمتي سخط الله تعالى عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابًا أليمًا، ويأمر الله تعالى بهم يوم القيامة إلى النار) قيل من هم يا رسول الله؟. قال: (أولهم الشيخ الزاني. والثاني: الإمام الظالم. والثالث: مدمن الخمر. والرابع: مانع الزكاة. والخامس: شاهد الزور. والسادس: الماشي بين الناس بالنميمة. والسابع: الذي ينظر لوالديه بنظر الغضب. والثامن: من يطلق زوجته ثم يمسكها على الحرام. والتاسع: الذي يحكم بالجور. والعاشر: تارك الصلاة على صحة البدن). وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن تارك الصلاة على صحة البدن: هل يقبل منه التوحيد؟ قال: من لا صلاة له لا توحيد له، ومن لا صلاة له، لا زكاة له، ومن لا صلاة له، لا صيام له. قال تعالى: وغيًّا واد في جهنم لا يدخله إلا تارك الصلاة. قال ابن عباس: أول ما يسأل العبد يوم القيامة عن الصلاة، فإن قبلت منه، قبل سائر عمله. وتارك الصلاة على صحة البدن إذا رفع اللقمة من القصعة، تقول: رفعني عدو الله إلى فم لم يذكر الله. وتارك الصلاة على صحة البدن يسوّد الله وجهه، ويضيّق خلقه، ويقتر رزقه، وتتقمّل ثيابه، ويبغضه الله تعالى، ويبغضه جيرانه ويجور عليه سلطانه. وتارك الصلاة على صحة البدن، لا تجوز شهادته، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله أو يزوّجه ابنته، ولا يدخل معه تحت سقف واحد. وتارك الصلاة على صحة البدن يأتي يوم القيامة على جبهته مكتوب ثلاثة أسطر: في السطر الأول: يا مضيّع حقوق الله. وفي الثاني: يا مخصوصًا بغضب الله تعالى. وفي الثالث: كما ضيّعت حق الله، فأيس اليوم من رحمة الله تعالى. وفي الخبر أن النار تقول لتارك الصلاة: أنت لي وليّ، يا ليت أن الله جمع بيني وبينك، فأنتقم للصلاة منك، أنت عدو للصلاة، والله عدو لك. وتقول له الجنة: يا عدو الله، ضيّعت أمانة الله تعالى، وتهاونت بفريضة الله، فإني محرّمة عليك حين يتبوأ عباد الله مني حيث يشاؤون، ما جرت أنهاري، وتجاوبت أطياري، وسطع نوري، وتزيّن حوري، فأنا وما في الحور والسرور والولدان والقصور، حرام عليك أبد الآبدين. تمّ بحمد الله أخي، مالك لا تفيق من غفلتك، وتنتهي من نومتك، وتصحو من سكرتك. إلى متى الصدود عن طاعة المعبود، والغفلة عن بحر الموت المورود. فارحم نفسك قبل التلف، وابك عليها قبل الأسف، فإن السفر بعيد والزاد قليل. فاعمل للموت قبل الفوت.
|